من تراثنا العلمي العربي
لا يشكل الخط العربي فقط أداة تجسيد اللغة الحاملة للخصائص الحضارية والتاريخية والنفسية والمخيال الجماعي، ، بل يحمل هذا الخط أقدس رسالة خص بها العرب إلى جميع بني البشر في الزمان والمكان، وهي القرآن وبهذا المعنى أضحى الخط العربي يتمتع بميزة مقدسة لم تتوفر لغيره من الخطوط لكل اللغات المتعارف عليها في العالم. وبهذا المعنى أيضا اجتهد العرب وجهدوا ليمنحوا الأحرف العربية المكانة الأعلى والمنزلة الأرفع التي منحها القرآن الكريم.
على إيقاع آيات الوحي يتردد صدى إيقاع الكلمات المكتوبة ليحتل الخط العربي في جو من الصمت مكانة الكلام الشفي ويصل بالنص النهائي إلى ذروة الكمال والجمال الفني.
ويزيد من جمال هذا الفن الرائع شكل الخط العربي القابل أكثر من ي خط آخر لجمال الحرف وأناقته في كل أنحاء العالم الإسلامي قصة تطور الكتابة العربية التي يمارسها الخطاطون.
ونجد أن عربية القرآن تعود في منشئها إلى لهجة عرب الشمال(شمال الجزيرة العربية) التي اشتقت بدورها من اللغة النبطية التي كانت مشتقة بدورها من اللغة الآرامية. وأقدم أصل معروف للكتابة في الجزيرة العربية هو ذلك المدعو بالجزم وقد انتشرت كتابة الجزم شيئاً فشيئاً حتى أصبحت لغة كل العرب عندما نزل القرآن بها وخلدها.
لقد أدى انتشار الإسلام في الأمصار البعيدة بعد الفتوحات إلى تأسيس مدن جديدة مثل الكوفة في العراق وقد تم تأسيسها عام 638 م/39 هـ في ظل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم ازدهرت هذه المدينة وأصبحت موئلاً للعلم والعلماء وولّدت بذلك نوعاً جديداً من الكتابة دعيت :بالخط الكوفي
كانت النسخ الأولى من مصحف عثمان رضي الله عنه قد كُتبت بالحرف السائد في مكة والمدينة الذي هو عبارة عن تنويع محلي على خط الجزم ثم أصبح المصحف يكتب بعدئذ بالخط الكوفي وغيره من الخطوط العربية التي انتشرت وتطورت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي .
إن خطي المشق والحجازي المشتقين من الجزم يشهدان على الأساليب الأولى التي أدت إلى تثبيت كتابة النص الموحى.
لقد اكتسب الخط الكوفي نوعا من الرفعة والاعتلاء وأصبح الخط الديني الوحيد الذي يستخدم في نسخ القرآن. ويتميز الخط الكوفي بسمتين أساسيتين هما: الحروف العمودية القصيرة والحروف الأفقية الطويلة. وهذا ما جعل الخطاطين يكتبونه على صفائح طويلة أكثر مما هي عريضة. من هنا تنتج الأشكال الطويلة لمعظم نسخ القرآن المكتوبة بهذا الخط اللهم إلا بعض الاستثتاءات القليلة. لم تكن المصاحف المكتوبة بالخط لكوفي تخطى بالزخرفة إلا قليلاً جداً حتى القرن التاسع الميلادي وبعدئذ ابتدأت الزخارف والتزيينات تظهر وتأخذ دوراً نفعياً في الغالب.
الخط الكوفي المغربي:
نشأ هذا الخط في القيروان تلك المدينة التي أسسها العرب عام 670 م وقد كان مسجدها الكبير مركزاً ثقافياً يضم مدرسة لفن الخط تم فيها نسخ العديد من المصاحف. إن الخط الكوفي المغربي يبدو أكثر تقليداً ومحافظة ويتميز بوجود الدوائر النصفية تحت خط الكتابة هذه الدوائر التي تشكل حروفها الواطئة المبسوطة وهذه المكورات أو الدوائر تعدل هيئة النص وتجعله يسيل طبقاً لايقاع مرن متسلسل .
أما كتابة حروف العلة والحركات التشكيلية التي تتيح التفريق بين حرفين صوتين يتخذان نفس الرسم فقد تطورت بتطور أساليب الخط وذلك ضمن إطار إصلاح الكتابة العربية الذي تحقق على مراحل متعددة من خلال بعض الأسماء اللامعة لكبار النحاة العرب. ونستعرض قيما يلي أهم هذه المراحل والشخصيات:
أبو الأسود الدؤلي: توفي عام 688 هو المؤسس الشهير للنحو العربي ويكاد اسمه أن يكون أسطورة ويقال انه هو الذي اخترع نظام التشكيل للتعويض عن حروف العلة الناقصة وقد ارتبط نظام التشكيل هذا بالخط الكوفي ومشتقاته. وأما المشكلة بتمييز الحروف الصوتية عن بعضها البعض فقد حلت من قبل.
الحجاج بن يوسف الثقفي:
والي الأمويين والمنطقة الشرقية من المملكة بين عامي (694-714 ) وكانت الرموز التي تميز الحروف في البداية عبارة عن نقاط صغيرة سوداء بعدد واحد أو اثنين أو ثلاثة موضوعة تحت الحرف أو فوقه.
ولكن استخدام النقاط السوداء مع النقاط الملونة الأخرى قد أوقع الخلط والارتباك ولهذا السبب استبدلت الحركات المائلة القصيرة بالنقاط ولكن المشكلة لم تحل إلا بظهور ذلك العبقري الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم النحو المتوفى عام 786 م فقد حافظ الخليل على النقاط التي اقترحها الحجاج من أجل التمييز بين الحروف المتشابهة ولكنه وضع مكان رموز حروف العلة التي اكتشفها أبو الأسود الدؤلي ثمانية رموز للحركات الجديدة (مثل الفتحة، الكسرة، الضمة..).
وقد استخدمت هذه الأنظمة الثلاثة بشكل مستقل متساوق بحسب الخطوط والخطاطين. ثم وحد التنقيط الذي اخترعه الحجاج مع رموز الحركات التي اخترعها الخليل في نظام واحد إضافي.
كانت الكتابة منذ أصولها في الحجاز ولا تزال حتى الآن تنقسم إلى نوعين كبيرين: 1- المقور والمدور: أو الكتابة العادية السرسعة
2- المبسوط المستقيم: أو الكتابة الكوفية المائلة (على شكل الزاوية)
إن هذا الخط الثاني الذي استخدم تقليديا في نسخ القرآن الكريم طيلة القرون الخمسة الأولى بطل استخدامه لاحقاً إلا فيما يخص عناوين السور والبسملة والمصحف الشريف. ثم حلت بعده الكتابة العادية السريعة، وقد تعرضت عبر القرون وفي مختلف مناطق الإسلام إلى تنوعيات أسلوبية عديدة جداً .
إن الكتابة العادية السريعة الخاصة في المغرب تدعى بالخط المغربي وقد ظهر هذا الخط بالقرن الحادي عشر الميلادي وهو يتميز على شاكلة الخط الكوفي المغربي بمظهر منساب متسلسل عن طريق لعبة خطوطه المقوسة المفتوحة التي تنتهي عادة بحلقة ذهبية أو بحلقة من الحبر مرسومة على الورق أو الجلد ونجده أحياناً بشكل استثنائي مكتوبأ بحبر ذهبي أبيض على أرضية أرجوانية داكنة. إن أناقة الخط المغربي ورقته تتعارض غالباً مع سماكة الخط الكوفي المزخرف الذي يستخدم عادة في ؤسم العناوين الكبيرة فقط، إن أقواسه الدقيقة التي تميل إلى اليسار كالكتابة العربية والتي تكاد تمس الحروف الأخرى للكلمات المجاورة تخلع عليه سمة فريدة من التداخل والانسجام. وقد أدى نجاحه إلى طول عمره وانتشاره في كل أنحاء إفريقيا الشمالية والغربية وصولاً إلى إسبانيا الإسلامية حيث ظهر تنويع جديد عليه.إن الخط المغربي الأندلسي الذي نشأ في قرطبة قد فرض نفسه على كل إسبانيا الإسلامية. وهو مصحوب بالحركات والتشكيلات كما أنه يبدو أكثر رقة وتماسكاً عن طريق صف حروفه الصغيرة على طول الخطوط الرفيعة المكثفة.
وفي ذات الوقت أي في القرن العاشر ظهرت في المشرق أيام الحقبة العباسية ستة أساليب من الكتابة العادية السريعة وذلك تحت اسم "الأقلام الستة" وهي ما يلي: خط الثلث، والنسخ، والمحقق، والريحاني، والرقعة والتوقيع. وقد استخدمت كل هذه الخطوط بكثرة من قبل الحكومات و الإدارات الإسلامية. ولم تستخدم إلا أربعة منها لنسخ القرآن وهي الخطوط الثلاثة الأولى المشار إليها بالإضافة إلى الأخير.
وكان مكتشف هذه "الأقلام الستة" شخص عبقري يدعى :أبو علي المقلة الخطاط والوزير وقد أدت كفاءته ومعرفته الدقيقة بعلم الهندسة إلى تدشين المرحلة الأهم في الخط العربي العادي وهي باختراع القواعد الأساسية لفن الخط هذه القواعد المعتمدة على الوحدات القياسية الثلاث التالية:
1- النقطة المربعة
2- حرف الألف
3- المستديرة الخط أو الدائرة
وقد توصل على النقطة المربعة عن طريق ضغط القلم بشكل مائل على الورق من أجل تناسب الأضلاع الأربعة المتساوية الطول للنقطة من حجم اتساع القلم.
وأما الألف فهو عبارة عن شكل عمودي منتصب يصل قياسه إلى خمس أو سبع نقاط مربعة مصفوفة الواحدة فوق الأخرى.
أما المستديرة الخط فهي عبارة عن دائرة بشكل الألف نصف قطرها وقد استخدمت أيضاً كشكل هندسي أساسي.
ثم جاء بعده خطاط آخر اسمه ابن البواب توفي (عام 1022) وقد اغنى هذا النظام وأضاف إليه أسلوباً جديداً أكثر رشاقة يدعى " المنسوب الفائق ".
وبعد حوالي قرنين ونصف اخترع ياقوت المستعصمي (1298)طريقة جديدة لصنع الأقلام القصبية (الريشة) عن طريق بريها بشكل مائل. وقد أغنى ذلك الأساليب الستة. ثم بلور ياقوت هذا أسلوبا جديداً لخط الثلث وخلع عليه اسم الياقوتي.
أنواع الخطوط الستة:
الثلث: يستمد هذا الأسلوب في الكتابة اسمه من المبدأ الذي ينص على أنه يجب إمالة ثلث كل حرف من الحروف المكتوبة . وقد عاش هذا الخط أكثر من غيره من بقية الأقلام الستة. وهو خط ديني وفخم.
النسخ: ويعني المحو أو الإزالة وتعود نشأة هذا الخط إلى القرن الثالث عشر ثم انتشر وشاع في القرن التالي وقد ساعد على انتشاره اعتماد الورق في الكتابة بدلا من الرق أو الجلد وذلك في كل أنحاء المشرق الإسلامي . وبعد أن تم تحسينه على أيدي نظام ابن مقلة وابن البواب أصبح خطا لائقا لكتابة القرآن وبفضل نوعيته العالية هذه أصبحت المصاحف المكتوبة بالنسخ أكثر عدد من كل المصاحف المكتوبة بالخطوط العربية الأخرى مجتمعة .
إن هذا الخط يتميز بالكتابة الأنيقة والملائمة التي تصف الحروف والكلمات وعلى السطر بشكل واضح وتترك مسافات معقولة بينها وهذا ما يزيد من جمال تناسقها .
المحقق: وتعني التسمية في الأصل الخط المرسوم بقوة ووضوح أو الناتج عن فرط العناية والتدقيق وقد شاع هذا الخط كثيرا في زمن خلافة المأمون (813-833) ثم اكتسب بمرور الزمن بعض الاستدارة والنضج ولكن تم تعديله من قبل ابن مقلة ووصل إلى درجة الكمال على يد ابن البواب. إن المحقق خط رشيق ومتسع وهو يتوصل إلى تحقيق التوازن ما بين خطه الأفقي الرفيع المستطيل وبين خطوطه العالية المليئة بالشموخ والجمال وكان هذا الخط قد استخدم طيلة أكثر من أربعة قرون في كتابة المصاحف ذات الحجم الكبير .
التوقيع: وقد اخترع هذا النوع من الخط زمن الخليفة المأمون حيث القرن التاسع وهو يتميز بالصفات التالية : شديد التلاحم والتماسك، سريع، وقريب من خط الثلث الذي يقال أنه مشتق منه ويقال أنه قد اشتق من الخط الرياسي . الذي كان الخلفاء العباسيون يستخدمونه في كتاباتهم ومعاملاتهم الرسمية ويوقعون عليه أسماءهم وألقابهم ونلاحظ أن استخدامه نادر جدا في النصوص الدينية إلا استثناء واحد مصحف أفغانستان الضخم الذي تم نسخه بين عامي 1111 - 1112 وتوجد هناك أربع أساليب أخرى للخط العادي بالإضافة إلى الأقلام الستة وهي الغبار، التمار، التعليق، النستعليق .
الغبار: وهو معروف أيضا باسم الكتابة المجهرية نظرا لدقة حروفه وقد ظهر في القرن التاسع الميلادي وهو مشتق من الخط الرياسي وله حروف مدورة صغيرة جدا استعارت بعض خصائصها من خطي الثلث والنسخ .
النستعليق: وهي كلمة مركبة من كلمتين هما النسخ والتعليق وهذا الخط عبارة عن كتابة معلقة اخترعها الفرس واشتقوها من خط التعليق الذي تشكل هناك في نهاية القرن الخامس عشر وقد أصبحت هذه الكتابة منذ ذلك الوقت بمثابة الخط القومي الفارسي ولكن نادرا ما لجأ الخطاطون إلى النستعليق من أجل نسخ القرآن وقد وجدناه فقط في مصحف بالهند يعود للقرن الثامن عشر ولكنه غير مستخدم لكتابة النص العربي الموحى وإنما تم استخدامه فقط على الهوامش وبين السطور .
ليس الخط العربي مجرد كتابة فقط وإنما هو فن وعلم في آن معا وعادة ما يتوصل الخطاط إلى ذروة الإتقان والكمال الفني عن طريق معرفته العالية ببنية اللغة العربية ومدلولها الحرفي ولهذا السبب احتل كبار الخطاطين مكانة كبيرة في المجتمع الإسلامي وذاع سيطهم ليس فقط كخطاطين وإنما أيضا كفنانين وعلماء جديرين بالاحترام
المصدر من مجلة النادي
Bookmarks